الاتفاقية الأمنية التي وقعتها حكومة نوري المالكي مع واشنطن تمهد للاحتلال الدائم ولكن بشكل مستتر وليس علنيا كما هو حاصل الآن ، فالمتابع لبنود تلك الاتفاقية وما صاحبها من ضغوط أمريكية يلمس بوضوح أن واشنطن ضمنت الوصاية طويلة الأمد على العراق عبر مزاعم الانسحاب بحلول نهاية 2011
وكانت حكومة المالكي وواشنطن قد وقعتا في 16 نوفمبر 2008 على اتفاقية تدعو إلى انسحاب القوات الأمريكية خارج القرى والمدن بحلول 30 يونيو 2009 والانسحاب من العراق كله بنهاية 30 ديسمبر عام 2011 ، حيث ستتولى قوات الأمن العراقية المسئولية كاملة.
وبخلاف تحديد موعد الانسحاب ، تضمنت الاتفاقية أيضا أن العراق سيتمكن من مقاضاة الجنود والمدنيين الأمريكيين في حال ارتكابهم جنايات خارج معسكراتهم بشكل متعمد وعندما يكونوا خارج الواجب.
هذه الاتفاقية تقنن أوضاع القوات الأمريكية في العراق في غضون السنوات الثلاثة القادمة، بعد انتهاء التفويض الممنوح لها من الأمم المتحدة في 31 ديسمبر 2008 ، وقد جاءت ضمن إطار استراتيجي شامل يتضمن تنظيم التعاون العسكري والأمني والسياسي والاقتصادي والثقافي بين العراق والولايات المتحدة بعد الانسحاب ، أي أن أمريكا تعتزم استبدال الاحتلال العسكري المباشر بوصاية كاملة على العراق مدى الحياة ، حيث يمكن لها التدخل في كل كبيرة وصغيرة تتعلق بحياة ومستقبل العراقيين.
أيضا فإن تحديد موعد لإنهاء الاحتلال العسكري لا يعني في حقيقة الأمر الالتزام به بالكامل أو سحب كل القوات الأمريكية ، أي أن الأمور تسير باتجاه إقامة قواعد عسكرية دائمة حتى وإن كانت الاتفاقية لم تتضمن هذا الأمر صراحة ، وهذا ما يظهر في تصريحات بعض المسئولين الأمريكيين .
ففي 18 نوفمبر ، أعلن رئيس هيئة الأركان الأمريكية الأدميرال مايكل مولن بأن الانسحاب الأمريكي من العراق سيخضع للتطورات الميدانية ، كما صرح جيف موريل الناطق باسم وزارة الدفاع الأمريكية في منتصف الشهر ذاته بأن القوات الأمريكية لن تنسحب من العراق ما لم تتوفر الظروف المناسبة على الأرض لذلك، قائلا :" هذه الوثيقة ( الاتفاقية الأمنية ) ستؤمن الإطار القانوني الذي يسمح لنا بمواصلة العمليات
هناك" .
وبالإضافة إلى ما سبق ، فإن الاتفاقية رغم أنها لم تنص على الولاية القضائية الكاملة للجيش الأمريكي على قواته في العراق ، إلا أنها منحت السلطات القضائية العراقية صلاحية محدودة لمقاضاة العسكريين الأمريكيين والعاملين في الشركات الأمنية الأمريكية الخاصة مثل بلاك ووتر .
فالاتفاقية منحت القضاء العراقي صلاحية مقاضاة الأمريكيين الذين يرتكبون فقط جرائم كبرى خارج قواعدهم وخارج أوقات دوامهم الرسمي أي أنها حددت شروطا جغرافية وزمنية لتطبيقها ، بل ومهدت للقواعد العسكرية الدائمة عبر الحديث عن قواعد عسكرية أمريكية وأوقات دوام رسمي.
أيضا الاتفاقية اشترطت ضمن البند السابق أن تمارس صلاحية مقاضاة الأمريكيين بموافقة لجنة عراقية - أمريكية مشتركة وهو ما يتعارض مع مبدأ السيادة ، كما لم تحدد ما المقصود بـ "جرائم كبرى" وهو ما يجعل الأمر يحتمل تأويلات كثيرة بل ويؤكد أيضا أن الأمريكيين يأخذون باليسرى ما يعطونه باليمنى من خلال هذه الصياغات المطاطية الغامضة.
ومن الأمور الخطيرة التي تتضمنها الاتفاقية أيضا منح القوات الأمريكية الحق في ملاحقة عناصر تنظيم القاعدة والجهات الخارجية على القانون ( ميليشيا مقتدى الصدر ) ورموز حزب البعث المنحل، والاحتفاظ بحق السيطرة على الأجواء العراقية حتى ارتفاع 29 ألف قدم، والحصول على تسهيلات مفتوحة على الأرض وفي الأجواء والمياه العراقية، والاحتفاظ بحق اعتقال وسجن أي عراقي يعتقد الجيش الأمريكي أنه يشكل تهديداً لأمنه ، وهى كلها أمور تتعارض مع مبدأ السيادة وتهدد بإشعال حرب أهلية وتغذية العنف الطائفي .
أيضا فإنه رغم أن الاتفاقية تضمنت تسليم المنطقة الخضراء التي تحتوي على مقرات الحكومة العراقية والسفارتين الأمريكية والبريطانية إلى القوات العراقية في يناير 2009 ، إلا أنها نصت على إعطاء دور للجيش الأمريكي في بعض الأماكن داخل هذه المنطقة ، كما هناك بند واضح ينص على استمرار الحماية الأمريكية للأموال العراقية التي تأتي من تصدير النفط وتودع في صندوق التنمية .
منحت الاتفاقية القوات الأمريكية أيضا حق عدم صعود أي طرف على متن طائراتها وسفنها أو تفتيشها إلا بعد موافقة الجيش الأمريكي وهذا خرق واضح لسيادة العراق ، وبالنسبة للفترة المحددة لانسحاب القوات الأمريكية ، ليست بالفترة القصيرة ، إذ أن الولايات المتحدة بإمكانها نهب المزيد من نفط العراق ، فضلا عن إجراء نشاطات جاسوسية على دول الجوار وخاصة سوريا وإيران.
كما لم تلزم الاتفاقية الولايات المتحدة بدفع التعويضات عن الأضرار الكارثية التي سببها وجود قواتها المسلحة على أرض العراق منذ بداية الغزو والتي لم تستثن أي منطقة من مناطق بلاد الرافدين ، بل وتضمنت أن القوات الأمريكية جاءت بناء على طلب العراقيين وهو أمر ينافي الحقيقة ، حيث دخلت الولايات المتحدة إلى العراق بدون أي غطاء شرعي بدعوى وجود أسلحة دمار شامل وارتباط نظام صدام حسين بتنظيم القاعدة وقد ثبت كذب المبررين ، و المغالطة في هذا الشأن ستقضي على فرص العراق في المطالبة بالتعويضات وملاحقة جرائم الاحتلال مستقبلا.
الاتفاقية لم تضمن أيضا حماية العراق من الاعتداءات الخارجية بشكل واضح وصريح بعد أن جردته من كل الإمكانات العسكرية والمهنية التي تستطيع أن تحميه من مثل هذه الاعتداءات.
ويبقى البند الأسوأ ألا وهو احتفاظ الجيش الأمريكي بحق شن عمليات عسكرية لملاحقة ما يسمى بالإرهاب من دون الرجوع إلى الحكومة العراقية ، وأمريكا هنا تحتفظ بحق تفسير مفهوم "الإرهاب" ، الأمر الذي يعني اعتقالات لا حصر لها في صفوف الأبرياء كما قد يتجاوز حدود العراق إلى جيرانه ، رغم تأكيد حكومة المالكي أنها تلقت ضمانات بأن أمريكا لن تستخدم العراق لضرب جيرانه .
ورغم أن البعض يعول على التزام الرئيس الأمريكي المنتخب باراك أوباما بتنفيذ تعهده الانتخابي بسحب القوات الأمريكية بالكامل وعددها حوالي 150 ألف جندي ، إلا أن مقربين من أوباما أوضحوا أنه على الرغم من تأييده مبدأ الانسحاب من العراق، فإنه يرى سحب معظم وليس كل القوات خلال الـ16 شهرًا الأولى من رئاسته، بحيث يعود للولايات المتحدة كل شهر واحد أو اثنين من الألوية الخمسة عشر الأمريكية الموجودة الآن بالعراق ، كما يؤكد ضرورة بقاء بعض القوات هناك لحماية السفارة الأمريكية، ولتكون بمثابة قوة خاصة لتنفيذ مهمات مضادة لما يوصف بـ"الإرهاب"، الأمر الذي يرجح أنه لن يخرج عما ورد في الاتفاقية الأمنية التي وقعها سلفه جورج بوش.