بقلم الدكتور زغلول النجار
قال تعالى : (أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا {27} رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا {28} وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا {29} وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا {30} أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا وَمَرْعَاهَا {31} وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا {32} مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ {33}) [سورة
هذه الآية الكريمة تمثل القسم الثالث بأقرب النجوم إلينا ألا وهي الشمس التي أنزل الله(تعالى) سورة باسمها في محكم كتابه, واستهلها بالقسم أربع مرات بهذا النجم الذي جعله( تعالى) مصدرا للدفء والنور علي الأرض ولغير ذلك من مصادر الطاقة العديدة, التي بدونها لم يكن ممكنا لأي شكل من أشكال الحياة الأرضية أن يوجد.
من هنا يتضح لنا جانب من جوانب الهدف من هذا القسم المغلظ بالشمس, والذي يقول فيه ربنا( تبارك وتعالى):
والشمس وضحاها* والقمر إذا تلاها* والنهار إذا جلاها* والليل إذا يغشاها*
(الشمس:1 ــ4)
ويتلخص هذا الهدف في تنبيه الغافلين من بني البشر إلي أهمية أقرب النجوم إلينا, وإلي روعة الإبداع الإلهي في خلقه, ودلالة ذلك علي شيء من صفات هذا الخالق العظيم, وعلي أنه(تعالى) هو رب هذا الكون ومليكه, وإلهه الأوحد وموجده, والمتفرد بالسلطان فيه, بغير شريك ولاشبيه ولامنازع, وعلي أن الخضوع لجلاله بالعبادة, والنزول علي أوامره بالاستسلام والطاعة هما من أوجب واجبات الوجود في هذه الحياة, لأنهما يمثلان طوق النجاة للعباد في الدنيا والآخرة, وإلا فإن الله( تعالى) غني عن القسم لعباده.
وصفات الشمس التي أقسم بها ربنا( تبارك وتعالى) ضمن سلسلة طويلة من القسم بتسع من آياته في الأنفس والآفاق يأتي جواب القسم بها كلها في قول الحق(سبحانه):
(قد أفلح من زكاها* وقد خاب من دساها) ( الشمس:10,9).
بمعني أن فلاح الإنسان قائم علي تزكية نفسه بتقوى الله تعالى, والعمل بكتابه الخاتم وبسنة رسوله الخاتم( صلي الله عليه وسلم), وبالاستعداد ليوم الرحيل من هذه الدنيا, وما يستتبعه من حساب وجزاء, وخلود في حياة قادمة, إما في الجنة أبدا أو في النار أبدا كما علمنا كل أنبياء الله ورسله وعلي رأسهم خاتمهم أجمعين( صلي الله وسلم وبارك عليه وعليهم وعلي من تبعه وتبعهم بإحسان إلي يوم الدين).
وعلي النقيض من ذلك تكون خيبة الإنسان في الدنيا وخسارته في الآخرة إذا لم يحرص علي الإيمان الصادق, والعمل الصالح, وداوم علي تزكية النفس ومحاسبتها, وذلك لأن الإنسان ـ إنطلاقا من غروره وكبره, أو من غبائه وجهله ـ عرضة لغواية الشيطان له علي الكفر بالله, أو الإشراك في عبادته, أو الخوض في معاصي الله, ثم يدركه الأجل قبل توبة نصوح يبرأ بها إلي الله فيكون في ذلك خيبته الكبري, وخسرانه المبين.
وهذا هو المحور الرئيسي لسورة الشمس الذي يدور حول طبيعة النفس الإنسانية, واستعداداتها الفطرية لقبول أي من الخير والشر, لأن الإنسان مخلوق ذو إرادة حرة تمكنه من الاختيار بين هذين السبيلين, وعلي أساس من اختياره بإرادته الحرة يكون جزاؤه في الدنيا والآخرة.
وتختتم سورة الشمس بنموذج من نماذج الأمم التي عصت أوامر ربها, وكذبت رسله فكان عقابها ما أنزل الله( تعالى) بها من عذاب ونكال تستحقه, وأمر الله نافذ لامحالة, وهو( سبحانه) لايخشي أحدا فيما يتخذ من قرار لأنه رب هذا الكون ومليكه الذي لايسأل عما يفعل.وفي ذلك يقول ربنا( تبارك وتعالى):ك*ت ثمود بطغواها* إذ انبعث أشقاها* فقال لهم رسول الله ناقة الله وسقياها* فك*وه فعقروها فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها* ولايخاف عقباها*( الشمس:11 ــ15)
وفي مقالين سابقين قمنا باستعراض القسم بالآيتين الأولي والثانية من سورة الشمس, وفي هذا المقال نستعرض دلالة القسم بالآية الثالثة التي يقول فيها ربنا(عز من قائل): والنهار إذا جلاها*( الشمس:3) وقبل الدخول إلي ذلك لابد من استعراض لدلالة اللفظين( النهار) و(جلاها) من الناحية اللغوية, ومن تلخيص لآراء عدد من المفسرين السابقين في شرح دلالة هذه الآية الكريمة.
الدلالة اللغوية لألفاظ الآية الكريمة
من أجل فهم الدلالة اللفظية للآية الكريمة التي نحن بصددها.
لابد من شرح المعني اللغوي, للاسم( النهار) وللفعل( جلاها).
و(النهار) لغة هو ضد الليل, وهو نصف اليوم الذي تشرق فيه الشمس, وينتشر النور, ويعرف بالفترة الزمنية بين طلوع الشمس وغروبها, وإن كان في الشريعة الإسلامية هو الفترة الزمنية من طلوع الفجر الصادق إلي غروب الشمس.
ولفظة( النهار) لا تجمع كما لا يجمع كثير من الكلمات العربية من مثل السراب والعذاب, وإن كان البعض يحاول جمعه علي( أنهر) للقليل, وعلي( نهر) للكثير, وهو نادر الاستعمال.
ويقال( أنهر) أي: دخل في النهار, و(أنهر) الماء جري وسال, و(النهر) ــ بسكون الهاء وفتحها ــ واحد( الأنهار) وهو مجري الماء الفائض المتدفق, و(النهر) أيضا هو السعة تشبيها بنهر الماء.
وقوله( تعالى): (إن المتقين في جنات ونهر)(القمر:54)
فسر أهل العلم( نهر) هنا بالأنهار أو بالضياء( والصواب هو: بالنور) والسعة, والمعني الأول أولي لمواءمته لسياق الآية الكريمة.
ويقال( نهر) الماء أي: جري في الأرض حافرا مجراه جاعلا منه نهرا, ويقال
نهر نهر) أي كثير الماء, وكل كثير جري فقد( نهر) و(استنهر), ويقال( أنهر) الدم أي أساله وأرسله, ويستخدم الفعل(نهر)( نهرا), و(انتهر)( انتهارا) بمعني زجر زجرا بغلظة وشدة.
ويقال في العربية
جلا)( يجلو)( جلاء) بمعني أوضح وكشف, لأن أصل( الجلو) هو الكشف الظاهر, و(الجلي) هو كل ماهو ضد الخفي.
يقال
جلا) لي الخبر( يجلوه)( جلاء) أي وضحه, و(الجلية) هي الأخبار اليقينية, و(تجلي) بمعني تكشف,. و(انجلي) عنه الهم بمعني انكشف, و(جلاه) عنه أي أذهبه, ولذلك يقال,( جلي) السيف( جلاه)( تجلية) أي كشفه ويقال( جلا) السيف( يجلوه)( جلاء( أي صقله,, ويقال
جلا) بصره بالكحل(جلاء), ولذلك يقال للكحل( الجلاء).
و(التجلي) قد يكون بالذات كما في قوله( تعالى): والنهار إذا تجلي*( الليل:2)
وقد يكون بالأمر والفعل من مثل قوله تعالى: (فلما تجلي ربه للجبل جعله دكا وخر موسي صعقا)( الأعراف:143).
ويقال( جلا) العروس( يجلوها)( جلاء) و(جلوة), و(اجتلاها) بمعني نظر إليها( مجلوة), ويقال: فلان ابن( جلا) أي مشهور.
و(الجلاء) هو الأمر(الجلي) أي الواضح البين, و(الجلاء) أيضا هو الخروج من البلد والإخراج منه, يقال: لقد( جلوا) عن أوطانهم ولقد( جلاهم) أو( أجلاهم) غيرهم( فأجلوا) عنها, ويقال كذلك
أجلوا) عن الشيء إذا انفرجوا عنه.
من أقوال المفسرين
في تفسير قوله( تعالى):والنهار إذا جلاها*
ذكر ابن كثير( يرحمه الله) مانصه:... قال مجاهد
والصواب هو أنارها), وقال قتادة: إذا غشيها النهار, وتأول بعضهم ذلك بمعني: والنهار إذا جلا الظلمة لدلالة الكلام عليها.( قلت): ولو أن القائل تأول ذلك بمعني( والنهار إذا جلاها) أي البسيطة لكان أولي, ولصح تأويله في قوله( تعالى)
والليل إذا يغشاها) فكان أجود وأقوي, والله أعلم. ولهذا قال مجاهد
والنهار إذا جلاها) إنه كقوله تعالى
والنهار إذا تجلي), وأما ابن جرير فاختار عود الضمير في ذلك كله علي الشمس لجريان ذكرها,...
* وجاء في الجلالين( رحم الله كاتبيه) ما نصه
والنهار إذا جلاها) بارتفاعه( أي: ظهرت فيه).
* وذكر صاحب الظلال( رحمه الله رحمة واسعة) مانصه:
ويقسم بالنهار إذا جلاها.. مما يوحي بأن المقصود بالضحى هو الفترة الخاصة لا كل النهار.. والضمير في( جلاها).. الظاهر أنه يعود إلي الشمس المذكورة في السياق.. ولكن الإيحاء القرآني يشي بأنه ضمير هذه البسيطة. وللأسلوب القرآني إيحاءات جانبية كهذه مضمرة في السياق لأنها معهودة في الحس البشري يستدعيها التعبير استدعاء خفيا. فالنهار يجلي البسيطة ويكشفها. وللنهار في حياة الإنسان آثاره التي يعلمها. وقد ينسي الإنسان بطول التكرار جمال النهار وأثره. فهذه اللمسة السريعة في مثل هذا السياق توقظه وتبعثه للتأمل في هذه الظاهرة الكبرى.
* وجاء في صفوة البيان لمعاني القرآن( رحم الله كاتبه برحمته الواسعة) ما نصه
والنهار إذا جلاها) أي جلي الشمس وأظهرها, فإنها تتجلي إذا انبسط النهار ومضت منه مدة, وهو وقت الضحى والضحاء. وقيل: جلي الدنيا, أي وجه الأرض وما عليه.
* وذكر أصحاب المنتخب في تفسير القرآن الكريم( جزاهم الله خيرا) ما نصه:وبالنهار إذا أظهر الشمس واضحة غير محجوبة.
* وجاء في صفوة التفاسير( جزي الله كاتبه خيرا) ما نصه:
(والنهار إذا جلاها) أي وأقسم بالنهار إذا جلا ظلمة الأرض بضيائه وكشفها بنوره, وقال ابن كثير: إذا جلا البسيطة وأضاء الكون بنوره.