رقية بنت الرسول رضوان الله عليهافي الساعات الأولى لشروق فجر الرسالة النبوية، أشرقت نفس خديجة بنت خويلدوبناتها رضي الله عنهن بنور الإيمان، وصٌنِعنَ على عيني رسول الله rالذي صنع علىعين الله عز وجل، فحمل نور الله، وهدى الله، وكلمة الله إلى الدنيا بأسرها. ومن بينصفوف نساء قريش، سيصوغ الإسلام امرأة منهن؛ لتكون واحدة من حبات العقد الفريد،والدر النضيد في البيت النبوي الطاهر، الذي أذهب الله عنه الرجس، وطهره تطهيراً. ياترى من هذه الجوهرة؟ ([1]).
نشأت رقية رضي الله عنهاولدت رقية بنت رسول الله rالهاشمية([2])، وأمها خديجة أم المؤمنين، ونشأت قبل بعثةالرسول صلى الله عليه وسلم([3]). وقد استمدت رقية رضي الله عنها كثيراً من شمائلأمها، وتمثلتها قولاً وفعلاً في حياتها من أول يوم تنفس فيِه صبح الإسلام، إلى أنكانت رحلتها الأخيرة إلى الله عز وجل. وسيرة حياة السيدة رقية رضي الله عنها،تستوفي كل الكنوز الغنية بمكارم الفضائل ونفحات الإيمان، وهذه الكنوز التي تغنيالمرء عن الدراهم والدنانير، بل أموال الدنيا كلها، فسيرة السيدة رقية تجعل النفوستحلق في أجواء طيبة، لا يستطيع أصحاب الأموال والدنيا الوصول إليها، ولو صرفواالدنيا وما فيها، لأن من يتذوق طعم حياة لاالأبرار، يترفع عن الحياة التي لا تعرفإلا الدرهم والدينار([4]).
زواجها رضي الله عنهامن عُتبةلم يمض على زواج زينب الكبرى غير وقت قصير، إلا وطرق باب خديجة ومحمد، وفد من آل عبدالمطلب، جاء يخطب رقية وأختها التي تصغرها قليلاً لشابين من أبناء الأعمام وهما (عُتبة وعُتيبة) ولدا أبي لهب عم الرسول صلى الله عليه وسلم.
وأحست رقيةوأختها انقباضاً لدى أمهما خديجة، فالأم تعرف من تكون أم الخاطبين زوجة أبي لهب،ولعل كل بيوت مكة تعرف من هي أم جميل بنت حرب ذات القلب القاسي والطبع الشرسواللسان الحاد. ولقد أشفقت الأم على ابنتيها من معاشرة أم جميل، لكنها خشيت اللسانالسليط الذي سينطلق متحدثاً بما شاء من حقد وافتراء إن لم تتم الموافقة على الخطوبةوالزواج، ولم تشأ خديجة أيضاً أن تعكر على زوجها طمأنينته وهدوءه بمخاوفها من زوجةأبي لهب وتمت الموافقة، وبارك محمد ابنتيه، وأعقب ذلك فرحة العرس والزفاف وانتقلتالعروسان في حراسة الله إلى بيت آخر وجو جديد.
دعوة الرسولr الناس إلى الإسلام ودخلت رقية مع أختها أم كلثوم بيت العم، ولكن لم يكن مكوثهماهناك طويلاً فما كاد رسولنا محمد r يتلقى رسالة ربه، ويدعو إلى الدين الجديد، وراحسيدنا رسول الله، يدعو إلى الإسلام سراً، فاستجاب لله عز وجل من شاء من الرجال ومنالنساء والولدان. ويبدو أن عمات رسول الله قد نصحنه r ألا يدعو عمه أبا لهب لكيلاتثور هائجته، فلا يدري بما يتكلم، وحتى لا تنفث زوجته أم جميل سمومها في بنات النبيفقد كان أبو لهب وأولاده ألعوبة تتحكم فيهم أم جميل التي تنهش الغيرة قلبها إذا ماأصاب غيرها خير. وقد قام رسول الله بدعوة الناس إلى الإسلام وعندما علم أبو لهببذلك أخذ يضحك ويسخر من رسول الله ثم رجع إلى البيت، وراح يروي لامرأته الحاقدة ماكان من أمر محمد ابن أخيه الذي أخبرهم أنه رسول الله إليهم؛ ليخرجهم من الظُلماتإلى النور وصراط العزيز الحميد، وشاركت أم جميل زوجها في سخريتهوهزئه.
ولعب شيطان الحقد في نفسها، وأحست برغبة عنيفة في داخلهاللانتقام من أقرب الناس إليها من رقية وأم كلثوم رضي الله عنهما، وإن كان هذاالانتقام سيؤذي ولديها، ولكنها مادامت ستفرغ كل حقد ممكن لديها، وتقيء كل عصارةكيدها في جوانب نفسها، فلا مانع من ذلك حتى تحطم بزعمها الدعوة المحمدية، وسلكت ضدسيدنا رسول الله أبشع السبل في اضطهاده، وزادت على ذلك أن أرسلت إلى أصهار رسولالله تطلب منهم مفارقة بنات الرسول، أما أبو العاص فرفض طلبهم مؤثرا ومفضلاً ًصاحبته زينب على نساء قريش جميعاً، وقد أمن في نهاية المطاف وجمع الله شمل الأحبة. وأما عُتبة وعُتيبة فلقد تكفلت أم جميل بالأمر دون أن تحتاج لطلب من أحد.
وطفقت أم جميل تنفث سمومها في كل مكان تكون فيه، ولم تكتف بكشفخبيئة نفسها الخبيثة، ولكنها راحت تزين للناس مقاومة الدعوة، واجتثاث أصولها؛لأنهاتفرق بين المرء وأخيه، وأمه وأبيه، وصاحبته وبنيه، وفصيلته التي تؤويه. ولما انتهتمن طوافها، وهي تزرع بذور الفتنة، وتبغي نشر الحقد والفساد، راحت تجمع الحطب لتضعهفي طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم لتؤذيه، وفي هذا دليل على بخلها الذي جبلتعليه([5]).
لاولكن القرآن الكريم تنزل على الحبيب المصطفى r ندياً رطباً،ونزل القرآن عليه يشير إلى المصير المشؤوم لأم جميل بنت حرب، وزوجها المشؤوم أبيلهب، قال الله تعالى: )تبت يدا أبي لهب وتب *ما أغني عنه ماله وما كسب* سيصلى ناراذات لهب* وامرأته حمالة الحطب * في جيدها حبلاً من مسد(. (المسد:1-5).
وكانت رقية وأم كلثوم في كنف ابني عمهما، لما نزلت سورة المسد،وذاعت فيالدنيا بأسرها، ومشي بعض الناس بها إلى أبي لهب وأم جميل، اربدَّ وجه كل واحدمنهما، واستبد بها الغضب والحنق، ثم أرسلا ولديهما عُتبة وعُتيبة وقالا لهما: إنَّمحمداً قد سبهما، ثم التف أبو لهب إلى ولده عتبة وقال في غضب: رأسي من رأسك حرام إنلم تطلق ابنة محمد؛ فطلقها قبل أن يدخل بها. وأما عُتيبة، فقد استسلم لثورة الغضبوقال في ثورة واضطراب: لآتين محمداً فلأوذينَّه في ربه. وانطلق عتيبة بن أبي لهبإلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فشتمه ورد عليه ابنته وطلقها، فقال رسولالله"اللهم سلط عليه كلباً من كلابك" واستجابت دعوة الرسول r، فأكل الأسد عُتيبة فيإحدى أسفاره إلى الشام([6]).
ولم يكفها أن ردت رقية وأم كلثوم مطلقتين، بلخرجت ومعها زوجها أبو لهب (الذي شذ عن الأعمام وآل هاشم، فقد جمع بين الكفر وعداوةابن أخيه)، وسارت وإياه يشتمان محمداً، ويؤذيانه ويؤلبان الناس ضده، وقد صبر الرسول r على أذاهم. وكذلك فعلت رقية وأختها، صبرتا مع أبيهما، وهما اللتان تعودتا أنتتجملا بالصبر قبل طلاقهما، لما كانت تقوم به أم جميل من رصد حركاتهما ومحاسبتهماعلى النظرة والهمسة واللفتة.
زواج رقية من عثمان:شاءت قدرةالله لرقية أن ترزق بعد صبرها زوجاً صالحاً كريماً من النفر الثمانية الذين سبقواإلى الإسلام، وأحد العشرة المبشرين بالجنة، ذلك هو (عثمان بن عفان) صاحب النسبالعريق، والطلعة البهية، والمال الموفور، والخلق الكريم. وعثمان بن عفان أحد فتيانقريش مالاً، وجمالاً، وعزاً، ومنعةً، تصافح سمعه همسات دافئة تدعو إلى عبادة العليمالخبير الله رب العالمين. والذي أعزه الله في الإسلام سبقاً وبذلاً وتضحيةً، وأكرمهبما يقدم عليه من شرف المصاهرة، وما كان الرسول الكريم ليبخل على صحابي مثل عثمانبمصاهرته، وسرعان ما استشار ابنته، ففهم منها الموافقة عن حب وكرامة، وتم لعثماننقل عروسه إلى بيته، وهو يعلم أن قريشاً لن تشاركه فرحته، وسوف تغضب عليه أشدالغضب. ولكن الإيمان يفديه عثمان بالقلب ويسأل ربه القبول.
ودخلت رقية بيت الزوج العزيز، وهي تدرك أنها ستشاركه دعوته وصبره، وأن سبلاً صعبة سوف تسلكها معهدون شك إلى أن يتم النصر لأبيها وأتباعه. وسعدت رقية رضي الله عنها بهذا الزواج منالتقي النقي عثمان بن عفان رضي الله عنه، وولدت رقية غلاماً من عثمان فسماه عبدالله، واكتنى به([7]).
رقية والهجرة إلى الحبشة:ودارتالأيام لكي تختبر صدق المؤمنين، وتشهد أن أتباع محمد قد تحملوا الكثير من أذىالمشركين، كان المؤمنون وفي مقدمتهم رقية وعثمان رضي الله عنهم في كرب عظيم، فكفارقريش ينزلون بهم صنوف العذاب، وألوان البلاء والنقمة،)وما نقموا بهم إلا أن يؤمنوابالله العزيز الحميد( (البروج:
.ولم يكن رسول الله r بقادر على إنقاذ المسلمين ممايلاقونه من البلاء المبين، وجاءه عثمان وابنته رقية يشكوان مما يقاسيان من فجرةالكافرين، ويقرران أنهما قد ضاقا باضطهاد قريش وأذاهم.
وجاء نفر آخرون ممنآمن من المسلمين، وشكوا إلى الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ما يجدون من أذىقريش، ومن أذى أبي جهل زعيم الفجار(
). ثم أشار النبي عليهم بأن يخرجوا إلىالحبشة، إذ يحكمها ملك رفيق لا يظلم عنده أحد، ومن ثم يجعل الله للمسلمين فرجاً مماهم عليه الآن.
وأخذت رقية وعثمان رضي الله عنهما يعدان ما يلزمللهجرة، وترك الوطن الأم مكة أم القرى. ويكون عثمان ورقية أول من هاجر على قربعهدهما بالزواج، ونظرت رقية مع زوجها نظرة وداع على البلد الحبيب. وتمالكت دمعهاقليلاً، ثم صعب ذلك عليها، فبكت وهي تعانق أباها وأمها وأخواتها الثلاث زينب وأمكلثوم والصغيرة فاطمة، ثم سارت راحلتها مع تسعة من المهاجرين، مفارقة الأهلوالأحباب، وعثمان هو أول من هاجر بأهله، ثم توافدت بعد ذلك بعض العزاء والمواساة،لكنها ظلت أبداً تنزع إلى مكة وتحن إلى من تركتهم بها، وظل سمعها مرهفاً يتلهف إلىأنباء أبيها الرسول r، وصحبة الكرام. ولقد أثرت شدة الشوق والحنين على صحتها،فأسقطت جنينها الأول، وخيف عليها من فرط الضعف والإعياء، ولعل مما خفف عنها الأزمةالحرجة رعاية زوجها وحبة وعطف المهاجرين وعنايتهم.
وانطلق المهاجرون نحوالحبشة تتقدمهم رقية وعثمان، حتى دخلوا على النجاشي، فأكرم وفادتهم، وأحسن مثواهم،فكانوا في خير جوار،لا يؤذيهم أحد ويقيمون شعائر دينهم في أمن وأمان وسلام. وكانترقية رضي الله عنها في شوق واشتياق إلى أبيها رسول الله وأمها خديجة، ولكن المسافةبعيدة، وإن كانت الأرواح لتلتقي في الأحلام.
وجاء من أقصى مكة رجلمن أصحاب رسول الله، فاجتمع به المسلمون في الحبشة، وأصاخوا إليه أسماعهم حيث راحيقص عليهم خبراً أثلج صدورهم، خبر إسلام حمزة بن عبد المطلب وعمر بن الخطاب، وكيفأن الله عز وجل قد أعز بهما الإسلام. واستبشر المهاجرون بإسلام حمزة وعمر، فخرجواراجعين، وقلوبهم تخفق بالأمل والرجاء، وخصوصاً سيدة نساء المهاجرين رقية بنت رسولالله التي تعلق فؤادها وأفئدة المؤمنين بنبي الله محمد r.
العودةإلى مكة: وصلت إلى الحبشة شائعات كاذبة، تتحدث عن إيمان قريش بمحمد، فلم يقوبعض المهاجرين على مغالبة الحنين المستثار، وسَرعان ما ساروا في ركب متجهين نحومكة، ويتقدمهم عثمان ورقية، ولكن يا للخيبة المريرة، فما أن بلغوا مشارف مكة، حتىأحاطت بهم صيحات الوعيد والهلاك. وطرقت رقية باب أبيها تحت جنح الظلام، فسمعت أقدامفاطمة وأم كلثوم، وما أن فتح الباب حتى تعانق الأحبة، وانهمرت دموع اللقاء. وأقبلمحمدe نحو ابنته يحنو عليها ويسعفها لتثوب إلى السكينة والصبر، فالأم خديجة قد قاستمع رسول الله وآل هاشم كثيراً من الاضطهاد مع أنها لم تهاجر، وقد ألقاها المرضطريحة الفراش، لتودع الدنيا وابنتها ما تزال غائبة فيالحبشة([9]).